الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} تفريع على ما تقدم من قوله: {لكِن الذين اتقوا ربهم لهم غرفٌ} [الزمر: 20] وما ألحق به من تمثيل حالهم في الانتفاع بالقرآن فُرع عليه هذا الاستفهام التقريري. و (مَن) موصلة مبتدأ، والخبر محذوف دل عليه قوله: {لكِن الذينَ اتَّقوا ربَّهُم} مما اقتضاه حرف الاستدراك من مخالفة حالة لحال من حق عليه كلمة العذاب. والتقدير: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه مِثل الذي حقّ عليه كلمة العذاب فهو في ظلمة الكفر، أو تقديره: مثل من قسا قلبه بدلالة قوله: {فَوَيلٌ للقاسِيَةِ قلوبُهم}، وهذا من دلالة اللاحق. وشرحُ الصدر للإِسلام استعارة لقبول العقل هديَ الإِسلام ومحبّته. وحقيقة الشرح أنه: شق اللحم، ومنه سمي علم مشاهدة باطن الأسباب وتركيبه علم التشريح لتوقفه على شق الجلد واللحم والإطلاع على ما تحت ذلك. ولما كان الإِنسان إذا تحير وتردد في أمر يجدّ في نفسه غماً يتأثر منه جهازه العصبي فيظهر تَأثره في انضغاط نَفَسه حتى يصير تنفسه عسيراً ويكثر تنهده وكان عضو التنفس في الصدر، شبه ذلك الانضغاط بالضيق والانطباق فقالوا: ضاق صدره، قال تعالى عن موسى: {ويضيق صدري} [الشعراء: 13]، وقالوا: انطبق صدره وانطبقت أضلاعه وقالوا في ضد ذلك: شرح الله صدره، وجمع بينهما قوله تعالى: {فمن يرد اللَّه أن يهديه يشرحْ صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعَّدُ في السماء} في سورة [الأنعام: 125]، ومنه قولهم: فلان في انشراح، أي يحس كأن صدره شُرح ووُسع. ومن رشاقة ألفاظ القرآن إيثار كلمة {شَرح} للدلالة على قبول الإِسلام لأن تعاليم الإِسلام وأخلاقه وآدابه تكسب المسلم فرحاً بحاله ومسرة برضى ربه واستخفافاً للمصائب والكوارث لجزمه بأنه على حق في أمره وأنه مثاب على ضره وأنه راججٍ رحمة ربه في الدنيا والآخرة ولعدم مخالطة الشك والحيرة ضميره. فإن المؤمن أول ما يؤمن بأن الله واحد وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله ينشرح صدره بأنه ارتفع درجات عن الحالة التي كان عليها حالةَ الشرك إن اجتنبَ عبادة أحجار هو أشرف منها ومعظم ممتلكاته أشرف منها كفرسه وجمله وعبده وأَمته وماشيته ونخِله، فشعر بعزة نفسه مرتفعاً عما انكشف له من مهانتها السابقة التي غسلها عنه الإِسلام، ثم أصبح يقرأ القرآن وينطق عن الحكمة ويتسم بمكارم الأخلاق وأصالة الرأي ومحبة فعل الخير لوجه الله لا للرياء والسمعة، ولا ينطوي باطنه على غلّ ولا حسد ولا كراهية في ذات الله وأصبح يُعد المسلمين لنفسه إخواناً، وقد ترك الاكتساب بالغارة والميسر، واستغنى بالقناعة عَن الضراعة إلا إلى الله تعالى، وإذا مسه ضر رجا زواله ولم ييأس من تغير حاله. وأيقن أنه مثاب على تحمله وصبره، وإذا مسته نعمة حمد ربه وترقب المزيد، فكان صدره منشرحاً بالإِسلام متلقياً الحوادث باستبصار غير هياب شجاع القلب عزيز النفس. واللام في {للإسْلامِ} لام العلة، أي شرحه لأجل الإِسلام، أي لأجل قبوله. وفرع على أن شرح الله صدره للإسلام قوله تعالى: {فهُوَ على نُورٍ من ربِّهِ} فالضمير عائد إلى {مّن}. والنور: مستعار للهدى ووضوح الحق لأن النور به تنجلي الأشياء ويخرج المبصر من غياهب الضلالة وتردد اللبس بين الحقائق والأشباح. واستعيرت {على} استعارةً تبعية أو تمثيلية للتمكن من النور كما استعيرت في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5] على الوجهين المقررين هنالك. و{مّن ربِّهِ} نعت ل {نور ومن ابتدائية، أي نور موصوف بأنه جاء به من عند الله فهو نور كامل لا تخالطه ظلمة، وهو النور الذي أضيف إلى اسم الله في قوله تعالى: {يهدي اللَّه لنوره من يشاء} في سورة [النور: 35]. {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله أولئك فِى ضلال فُرع على وصف حال من شرحَ الله صدره للإِسلام فهو على نور من ربه، ما يدل على حال ضده وهم الذين لم يشرح الله صدورهم للإِسلام فكانت لقلوبهم قساوة فُطِروا عليها فلا تسلك دعوة الخير إلى قلوبهم. وأُجمل سوء حالهم بما تدل عليه كلمة {ويل} من بلوغهم أقصى غايات الشقاوة والتعاسةِ، وقد تقدم تفصيل معانيه عند قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} في سورة [البقرة: 79]. والقاسي: المتصف بالقساوة في الحال، وحقيقة القساوة: الغلظ والصلابة في الأجسام، وقد تقدمت عند قوله تعالى: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} [البقرة: 74]. وقسوة القلب: مستعارة لقلة تأثّر العقل بما يُسدى إلى صاحبه من المواعظ ونحوها، ويقابل هذه الاستعارة استعارة اللين لسرعة التأثر بالنصائح ونحوها، كما سيأتي في قوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جلودُهم وقُلوبُهم} [الزمر: 23]. و {مِن} في قوله: {مّن ذِكرِ الله} يجوز أن تكون بمعنى (عن) بتضمين {القاسية} معنى المعرضة والنافرة، وقد عدّ مرادف معنى (عن) من معاني {مِن، واستُشهد له في مغني اللبيب} بهذه الآية وبقوله تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا} [ق: 22]، وفيه نظر، لإِمكان حملهما على معنيين شائعين من معاني {مِن وهما معنى التعليل في الآية الأولى كقولهم: سقاهم من الغيْمة، أي لأجل العطش، قاله الزمخشري. وجعل المعنى: أن قسوة قلوبهم حصلت فيهم من أجل ذكر الله، ومعنى الابتداء في الآية الثانية، أي قست قلوبهم ابتداء من سماع ذكر الله. والمراد بذكر الله القرآن وإضافته إلى الله زيادة تشريف له. والمعنى: أنهم إذا تليت آية اشمأزّوا فتمكن الاشمئزاز منهم فقست قلوبهم. وحاصل المعنى: أن كفرهم يحملهم على كراهية ما يسمعونه من الدعوة إلى الإِسلام بالقرآن فكلما سمعوه أعرضوا وعاندوا وتجددت كراهية الإِسلام في قلوبهم حتى ترسخ تلك الكراهية في قلوبهم فتصير قلوبهم قاسية. فكان القرآن أن سبب اطمئنان قلوب المؤمنين قال تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اللَّه ألا بذكر اللَّه تطمئن القلوب} [الرعد: 28]. وكان سبباً في قساوة قلوب الكافرين. وسبب ذلك اختلاف القابلية فإن السبب الواحد تختلف آثاره وأفعاله باختلاف القابلية، وإنما تعرف خصائص الأشياء باعتبار غالب آثارها في غالب المتأثرات، فذِكر الله سبب في لين القلوب وإشراقها إذا كانت القلوب سليمة من مرض العناد والمكابرة والكبر، فإذا حلّ فيها هذا المرض صارت إذا ذكر الله عندها أشد مرضاً مما كانت عليه. وجملة {أُولئِكَ في ضلاللٍ مُبينٍ} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما قبله من الحكم بأن قساوة قلوبهم من أجل أن يذكر الله عندهم يثير في نفس السامع أن يتساءل: كيف كان ذكر الله سبب قساوة قلوبهم؟ فأفيد بأن سبب ذلك هو أنهم متمكنون من الضلالة منغمسون في حَمْأتها فكان ضلالهم أشدّ من أن يتقشع حين يسمعون ذكر الله. وافتتاح هذه الجملة باسم الإِشارة عقب ما وصفوا به من قساوة القلوب لإِفادة أن ما سيذكر من حالهم بعد الإِشارة إليهم صاروا به أحرياء لأجل ما ذكر قبل اسم الإِشارة كما تقدم في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة {البقرة: 5]، فكان مضمون قوله: {أولئك في ضلاللٍ مبينٍ} وهو الضلال الشديد علة لقسوة قلوبهم حسبما اقتضاه وقوع جملته استئنافاً بيانياً. وكان مضمونها مفعولاً لقسوة قلوبهم حسبما اقتضاه تصدير جملتها باسم الإِشارة عقب وصف المشار إليهم بأوصاف.. وكذلك شأن الأعراض النفسية أن تكون فاعلة ومنفعلة باختلاف المثار وما تتركه من الآثار لأنها علل ومعلولات بالاعتبار لا يتوقف وجود أحد الشيئين منهما على وجود الآخر التوقف المسمى بالدور المعِيِّ. والمبين: الشديد الذي لا يخفى لشدته، فالمبين كناية عن القوة والرسوخ فهو يُبين للمتأمل أنه ضلال.
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كتابا متشابها مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله}. استئناف بياني نشأ بمناسبة المضادة بين مضمون جملة {فَوَيْلٌ للقاسِيةِ قُلوبهم من ذِكر الله} [الزمر: 22]. ومضمون هذه الجملة وهو أن القرآن يُلين قلوب الذين يخشون ربهم لأن مضمون الجملة السابقة يثير سؤال سائل عن وجه قسوة قلوب الضالين من ذكر الله فكانت جملة {الله نَزَّلَ أحْسَنَ الحدِيثِ} إلى قوله: {مِنْ هَادٍ} مُبينة أن قساوة قلوب الضالّين من سماع القرآن إنما هي لرَيْن في قلوبهم وعقولهم لا لنقص في هدايته. وهذا كما قال تعالى في سورة البقرة {هدى للمتقين} ثم قال: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} [البقرة: 6 7]. وهذه الجملة تكميل للتنويه بالقرآن المفتتح به غرض السورة وسيقفى بثناء آخر عند قوله: {ولقد ضربْنَا للنَّاسسِ في هذا القُرءَاننِ من كل مَثَل لعلَّهُم يتذَكَّرُونَ} [الزمر: 27] الآية، ثم بقوله: {إنَّا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق} [الزمر: 41] ثم بقولِه: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر: 55]. وافتتاح الجملة باسم الجلالة يؤذن بتفخيم أحسن الحديث المنزل بأن منزّله هو أعظم عظيم، ثم الإِخبار عن اسم الجلالة بالخبر الفعلي يدل على تقوية الحُكم وتحقيقه على نحو قولهم: هو يعطي الجزيل، ويفيد مع التقوية دلالة على الاختصاص، أي اختصاص تنزيل الكتاب بالله تعالى، والمعنى: الله نزّل الكتاب لا غيرُه وضَعه، ففيه إثبات أنه منزّل من عالم القدس، وذلك أيضاً كناية عن كونه وحياً من عند الله لا من وضع البشر. فدلت الجملة على تقوَ واختصاص بالصراحة، وعلى اختصاص بالكناية، وإذ أخذ مفهوم القصْر ومفهوم الكناية وهو المغاير لمنطوقهما كذلك يؤخذ مغاير التنزيل فعلاً يليق بوضع البشر، فالتقدير: لا غير الله وضَعه، ردّاً لقول المشركين: هو أساطير الأولين. والتحقيق الذي درج عليه صاحب «الكشاف» في قوله تعالى: {اللَّه يستهزئ بهم} [البقرة: 15] هو أن التقوى والاختصاص يجتمعان في إسناد الخبر الفعلي إلى المسند إليه، ووافقه على ذلك شرّاح «الكشاف». ومفاد هذا التقديم على الخبر الفعلي فيه تحقيقٌ لما تضمنته الإِضافة من التعظيم لشأن المضاف في قوله تعالى: {مِن ذِكرِ الله} [الزمر: 22] كما علمتَه آنفاً، فالمراد ب {أحْسَنَ الحدِيثِ} عين المراد ب {ذِكرِ الله} وهو القرآن، عدل عن ذكر ضميره لقصد إجراء الأوصاف الثلاثة عليه. وهي قوله: {كِتاباً مُتشابِهاً مثَاني تَقْشَعر منه جلودُ الذين يخشونَ ربَّهُم} الخ، فانتصب {كِتاباً} على الحال من {أحْسَنَ الحدِيثِ} أو على البدلية من {أحْسَنَ الحدِيثِ}، وانتصب {مُتَشَابهاً} على أنه نعتُ {كِتَاباً}. الوصف الأول: أنه أحسن الحديث. أي أحسن الخبر، والتعريف للجنس، والحديث: الخبر، سمي حديثاً لأن شأن الإِخبار أن يكون عن أمر حدث وجدّ. سمي القرآن حديثاً باسم بعض ما اشتمل عليه من أخبار الأمم والوعد والوعيد. وأما ما فيه من الإِنشاء من أمر ونهي ونحوهما فإنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبلغَه للناس آل إلى أنه إخبار عن أمر الله ونهيه. وقد سُمي القرآن حديثاً في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} في سورة [الأعراف: 185]، وقوله: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} في سورة [الكهف: 6]. ومعنى كون القرآن أحسن الحديث أنه أفضل الأخبار لأنه اشتمل على أفضل ما تشتمل عليه الأخبار من المعاني النافعة والجامعة لأصول الإِيمان، والتشريع، والاستدلال، والتنبيه على عظم العوالم والكائنات، وعجائب تكوين الإِنسان، والعقل، وبثّ الآداب، واستدعاء العقول للنظر والاستدلال الحق، ومن فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه البالغَيْن حدّ الإعجاز، ومن كونه مصدقاً لما تقدمه من كتب الله ومهيمناً عليها. وفي إسناد إنزاله إلى الله استشهاد على حسنه حيث نزّله العليم بنهاية محاسن الأخبار والذكر. الوصف الثاني: أنه كتاب، أي مجموع كلام مراد قراءته وتلاوته والاستفادة منه، مأمور بكتابته ليبقى حجة على مرّ الزمان فإنّ جعل الكلام كتاباً يقتضي أهمية ذلك الكلام والعناية بتنسيقه والاهتمام بحفظه على حالته. ولما سمّى الله القرآن كتاباً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر كتَّاب الوحي من أصحابه أن يكتبوا كل آية تنزل من الوحي في الموضع المعيّن لها بَين أخواتها استناداً إلى أمر من الله، لأن الله أشار إلى الأمر بكتابته في مواضع كثيرة من أولها قوله: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} [البروج: 21 22] وقوله: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون} [الواقعة: 77 78]. الصفة الثالثة: أنه متشابه، أي متشابهة أجزاؤه متماثلة في فصاحة ألفاظها وشرف معانيها، فهي متكافئة في الشرف والحسن (وهذا كما قالوا: امرأة متناصفة الحسن، أي أنصفَتْ صفاتُها بعضُها بعضاً فلم يزد بعضها على بعض، قال ابن هرمة إني غَرِضْتُ إلى تناصف وجهها *** غَرَض المحب إلى الحبيب الغائب ومنه: قولهم وجه مقسّم، أي متماثل الحسن، كأن أجزاءه تقاسمت الحسن وتعادلته، قال أرقم بن عِلباء اليَشكُري: ويوماً توافينا بوجه مقسَّم *** كأنْ ظبيةٌ تعطو إلى وَارِق السَّلَمْ أي بوجه قسّم الحسن على أجزائه أقساماً. فمعانيه متشابهة في صحتها وأحكامها وابتنائها على الحق والصدق ومصادفة المحزّ من الحجة وتبكيت الخصوم وكونها صلاحاً للناس وهدى. وألفاظه متماثلة في الشرف والفصاحة والإِصابة للأغراض من المعاني بحيث تبلغ ألفاظه ومعانيه أقصى ما تحتمله أشرف لغة للبشر وهي اللغة العربية مفردات ونظماً، وبذلك كان معجزاً لكل بليغ عن أن يأتي بمثله، وفي هذا إشارة إلى أن جميع آيات القرآن بالغ الطرف الأعلى من البلاغة وأنها متساوية في ذلك بحسب ما يقتضيه حال كل آية منها، وأما تفاوتها في كثرة الخصوصيات وقلتها فذلك تابع لاختلاف المقامات ومقتضيات الأحوال، فإن بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال، والطرف الأعلى من البلاغة هو مطابقة الكلام لجميع ما يقتضيه الحال، فآيات القرآن متماثلة متشابهة في الحسن لدى أهل الذوق من البلغاء بالسليقة أو بالعِلم وهو في هذا مخالف لغيره من الكلام البليغ فإن ذلك لا يخلو عن تفاوت ربما بلغ بعضُه مبلغَ أن لا يشبه بقيته، وهذا المعنى مما يدخل في قوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82]، فالكاتب البليغ والشاعر المجيد لا يخلو كلام أحد منهما من ضعف في بعضه، وأيضاً لا تتشابه أقوال أحد منهما بل تجد لكل منهما قِطعاً متفاوتة في الحسن والبلاغة وصحة المعاني. وبما قررنا تعلم أن المتشابه هنا مراد به معنى غير المراد في قوله تعالى: {وأُخر متشابهات} [آل عمران: 7] لاختلاف ما فيه التشابه. الصفة الرابعة: كونه مثاني، ومثاني: جمع مُثَنَّى بضم الميم وبتشديد النون جمعاً على غير قياس، أو اسم جمع. ويجوز كونه جمع مَثْنى بفتح الميم وتخفيف النون وهو اسم لِجعل المعدود أزواجاً اثنين، اثنين، وكلا الاحتمالين يطلق على معنى التكرير. كُنِّي عن معنى التكرير بمادة التثنية لأن التثنية أول مراتب التكرير، كما كُني بصيغة التثنية عن التكرير في قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} [الملك: 4]، وقول العرب: لَبَّيْك وسَعْديك، أي إجابات كثيرة ومساعدات كثيرة. وقد تقدم بيان معنى {مثاني} في قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} في سورة [الحجر: 87]، فالقرآن مثاني لأنه مكرر الأغراض. وهذا يتضمن امتناناً على الأمة بأن أغراض كتابها مكررة فيه لتكون مقاصده أرسخ في نفوسها، وليسمعها من فاته سماع أمثالها من قبلُ. ويتضمن أيضاً تنبيهاً على ناحية من نواحي إعجازه، وهي عدم المَلل من سماعه وأنه كلما تكرر غرض من أغراضه زاده تكرره قبولاً وحَلاوة في نفوس السامعين. فكأنه الوجه الحسن الذي قال في مثله أبو نواس: يزيدك وجهه حُسناً *** إذا ما زدته نظَرا وقد عدّ عياض في كتاب «الشفاء» من وجوه إعجاز القرآن: أن قارئه لا يَمَلّه وسامعه لا يمجه، بل الإِكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة، لا يزال غضاً طرياً، وغيره من الكلام ولو بلغ من الحسن والبلاغة مبلغاً عظيماً يُمَل مع الترديد ويُعادى إذا أعيد، ولذا وَصف رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن: " بأنه لا يخلق على كثرة الرد " رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب مرفوعاً. وذكر عياض أن الوليد بن المغيرة سمِع من النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90] الآية فقال: «والله إن له لحلاوة وإن عليه لطَلاوة». وبهذا تعلم أن وصف القرآن هنا بكونه مثاني هو غير الوصف الذي في قوله: {ولقد أتيناك سبعاً من المثاني} [الحجر: 78] لاختلاف ما أريد فيه بالتثنية وإن كان اشتقاق الوصف متّحداً. ووصَف {كِتاباً} وهو مفرد بوصف {مثاني} وهو مقتض التعدد يعيّن أن هذا الوصف جرى عليه باعتبار أجزائه، أي سوره أو آياته باعتبار أن كل غرض منه يكرر، أي باعتبار تباعيضه. الصفة الخامسة: أنه تقشعر منه جلود الذين يخشَون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم، وهذا الوصف مرتب على الوصف قبله وهو كون القرآن مثاني، أي مثنَّى الأغراض، وهو مشتمل على ثلاث جهات: أولاها: وصف القرآن بالجلالة والروعة في قلوب سامعيه، وذلك لما في آياته الكثيرة من الموعظة التي تَوْجَل منها القلوب، وهو وصف كمال لأنه من آثار قوة تأثير كلامه في النفوس، ولم يزل شأن أهل الخطابة والحكمة الحرصَ على تحصيل المقصود من كلامهم لأن الكلام إنما يواجه به السامعون لحصول فوائد مرْجوة من العمل به، وما تبارى الخطباء والبلغاء في ميادين القول إلا للتسابق إلى غايات الإِقناع، كما قال قيس بن خارجة، وقد قيل له: ما عندك؟ «عندي قِرى كللِ نازل، ورضى كل سَاخط، وخُطبةٌ من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل وأنهى عن التقاطع». وقد ذكر أرسطو في الغرض من الخطابة أنه إثارة الأهواء وقال: «إنها انفعالات في النفس تثير فيها حزناً أو مسرة». وقد اقتضى قوله: {تَقْشَعر منه جُلُودُ الذين يخشَونَ ربَّهُم} أن القرآن يشتمل على معان تقشعر منها الجلود وهي المعاني الموسومة بالجَزالة التي تثير في النفوس روعة وجلالة ورهبة تبعث على امتثال السامعين له وعملهم بما يتلقونه من قوارع القرآن وزواجره، وكنّي عن ذلك بحالةٍ تقارِنُ انفعال الخشية والرهبة في النفس لأن الإِنسان إذا ارتاع وخشي اقشعرّ جِلده من أثر الانفعال الرهبني، فمعنى {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ} تقشعر من سماعه وفهمه، فإن السماع والفهم يومئذٍ متقارنان لأن السامعين أهل اللسان. يقال: اقشعر الجلد، إذا تقبض تقبضاً شديداً كالذي يحصل عند شدة برد الجسد ورعدته. يقال: اقشعر جلده، إذا سمع أو رأى مَا يثير انزعاجه ورَوعه، فاقشعرار الجلود كناية عن وجل القلوب الذي تلزمه قشعريرة في الجلد غالباً. وقد عدّ عياض في «الشفاء» من وجوه إعجاز القرآن: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه والهيبةَ التي تعتريهم عند تلاوته لعلوّ مرتبته على كل كلام من شأنه أن يهابه سامعه، قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية اللَّه وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} [الحشر: 21]. وعن أسماء بنت أبي بكر كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمَع أعينهم وتقشعرّ جلودهم. وخص القشعريرة بالذين يخشون ربهم باعتبار ما سيردف به من قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهم} كما يأتي، قال عياض: «وهي، أي الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه، على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه كما قال تعالى: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولَّوا على أدبارهم نفوراً} [الإسراء: 46]. وهذه الروعة قد اعْترت جماعة قبل الإِسلام، فمنهم من أسلم لها لأوللِ وهلة. حُكي في الحديث الصحيح عن جبير بن مطعم قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ قوله تعالى: {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} إلى قوله: {المصيطرون} [الطور: 35 37] كاد قلبي أن يطير وذلك أول ما وُقر الإِسلام في قلبي». ومنهم من لم يسلم، روي عن محمد بن كعب القرظي قال: «أخبرت أن عتبة بن ربيعة كلّم النبي صلى الله عليه وسلم في كفّه عن سبِّ أصنامهم وتضليلهم، وعرض عليه أموراً والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلما فرغ قال له النبي صلى الله عليه وسلم اسمع ما أقول، وقَرأ عليه {حم} [فصلت: 1] حتى بلغ قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} [فصلت: 13] فأمسك عتبة على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الرحِم أن يكفّ» أي عن القراءة. وأما المؤمن فلا تزال روعته وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذاباً وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه، قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ منه جُلُود الذين يخشَونَ ربَّهُم ثمَّ تَلِينُ جلودُهم وقُلُوبهم إلى ذِكرِ الله}. الجهة الثانية من جهات هذا الوصف: لين قلوب المؤمنين عند سماعه أيضاً عقب وجَلها العارض من سماعه قبلُ. واللين: مستعار للقبول والسرور، وهو ضد للقساوة التي في قوله: {فويَلٌ للقاسِيَةِ قلوبُهُم من ذِكرِ الله}، فإن المؤمن إذا سمع آيات الوعيد والتهديد يخشى ربه ويتجنب ما حذر منه فيقشعرّ جلده فإذا عقب ذلك بآيات البشارة والوعد استبشر وفرِح وعرض أعماله على تلك الآيات فرأى نفسه متحلية بالعمل الذي وعد الله عليه بالثواب فاطمأنت نفسه وانقلب الوجل والخوف رجاءً وترقباً، فذلك معنى لين القلوب. وإنما يبعث هذا اللينَ في القلوب ما في القرآن من معاني الرحمة وذلك في الآيات الموصوفةِ معانيها بالسهولة نحو قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنَّه هو الغفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، والموصوفةِ معانيها بالرقة نحو: {يا عبادِ لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين} [الزخرف: 68 69]، وقد علم في فن الخطابة أن للجزالة مقاماتها وللسهولة والرقة مقاماتهما. الجهة الثالثة من جهات هذا الوصف: أعجوبة جمعه بين التأثيريْن المتضادَّيْن: مرةً بتأثير الرهبة، ومرة بتأثير الرغبة، ليكون المسلمون في معاملة ربهم جارِين على ما يَقتضيه جلالُه وما يقتضيه حلمه ورحمته. وهذه الجهة اقتضاها الجمع بين الجهتين المصرح بهما وهما جهة القشعريرة وجهة اللين، مع كون الموصوف بالأمرين فريقاً واحداً وهم الذين يخشون ربهم، والمقصود وصفهم بالتأثريْن عند تعاقب آيات الرحمة بعد آيات الرهبة. قال الفخر: إن المحققين من أهل الكمال قالوا: «السائرون في مبدأ جلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشُوا، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا» ا ه. فالآية هنا ذكرتْ لهم الحالتين لوقوعها بعد قوله: {مَثَانِيَ} كما أشرنا إليه آنفاً، وإلا فقد اقتصر على وصف الله المؤمنين بالوجل في قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِرَ اللَّه وَجلت قلوبهم في سورة} [الأنفال: 2]، فالمقام هنا لبيان تأثر المؤمنين بالقرآن، والمقام هنالك للثناء على المؤمنين بالخشية من الله في غير حالة قراءة القرآن. وإنما جُمع بين الجلود والقلوب في قوله تعالى: {ثم تَلِينُ جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} ولم يُكتف بأحد الأمرين عن الآخر كما اكتُفي في قوله: {تَقْشعر منه جلودُ الذين يخشونَ ربهم} لأن اقشعرار الجلود حالة طارئة عليها لا يكون إلا من وجل القلوب وروعتها فكنّي به عن تلك الروعة. وأما لين الجُلود عقب تلك القشعريرة فهو رجوع الجلود إلى حالتها السابقة قبل اقشعرارها، وذلك قد يحصل عن تناسسٍ أو تشاغل بعد تلك الروعة، فعطف عليه لين القلوب ليعلم أنه لين خاص ناشئ عن اطمئنان القلوب بالذكر كما قال تعالى: {ألا بذكر اللَّه تطمئن القلوب} [الرعد: 28] وليس مجرد رجوع الجلود إلى حالتها التي كانت قبل القشعريرة. ولم يُكتف بذكر لين القلوب عن لين الجلود لأنه قصد أن لين القلوب أفعمها حتى ظهر أثره على ظاهر الجلود. و {ذِكْرِ الله} وهو أحسن الحديث، وعُدل عن ضميره لبعد المعاد، وعدل عن إعادة اسمه السابق لمدحه بأنه ذكر من الله بعد أن مُدِح بأنه أحسن الحديث والمراد ب {ذِكْرِ الله} ما في آياته من ذكر الرحمة والبشارة، وذلك أن القرآن ما ذَكَر موعظة وترهيباً إلا أعقبه بترغيب وبشارة. وعُدّي فعل {تَلِينُ} بحرف {إلى} لتضمين {تَلِينُ} معنى: تطمئن وتسكن. {الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ} استئناف بياني فإن إجراء تلك الصفات الغُرّ على القرآن الدالةِ على أنه قد استكمل أقصى ما يوصف به كلام بالغ في نفوس المخاطبين كيف سلكت آثاره إلى نفوس الذين يخشون ربهم مما يثير سؤالاً يهجس في نفس السامع أن يقول: كيف لم تتأثر به نفوس فريق المصرِّين على الكفر وهو يقرع أسماعهم يوماً فيوماً، فتقع جملة {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بهِ من يَشَاءُ} جواباً عن هذا السؤال الهاجس. فالإِشارة إلى مضمون صفات القرآن المذكورة وتأثر المؤمنين بهديه، أي ذلك المذكورُ هدى الله، أي جعله الله سبَباً كاملاً جامعاً لوسائل الهدى، فمن فطر الله عقله ونفسَه على الصلاحية لقبول الهدى سريعاً أو بطيئاً اهتدى به، كذلك ومَن فطر الله قلبه على المكابرة، أو على فساد الفهم ضلّ فلم يهتد حتى يموت على ضلاله، فأطلق على هذا الفَطْر اسم الهُدى واسم الضلال، وأسند كلاهما إلى الله لأنه هو جبَّار القلوب على فطرتها وخالق وسائل ذلك ومدبر نواميسه وأنظمته. فمعنى إضافة الهدى إلى الله في قوله: {ذلك هُدَى الله} راجع إلى ما هيّأه الله للهدى من صفات القرآن فإضافته إليه بأنه أنزله لذلك. ومعنى إسناد الهدى والإضلال إلى الله راجع إلى مراتب تأثر المخاطبين بالقرآن وعدم تأثرهم بحيث كان القرآن مستوفياً لأسباب اهتداء الناس به فكانوا منهم من اهتدى به ومنهم من ضل عنه. ويجوز أن تكون الإِشارة إلى {أحْسَنَ الحَدِيثِ} وهو الكتاب، أي ذلك القرآن هدى الله، أي دليل هدى الله. ومقصده: اهتدى به من شاء الله اهتداءه، وكفر به من شاء الله ضلاله. فجملة {ومَن يُضْلِل الله فما لهُ من هَادٍ} تذييل للاستئناف البياني. ومعنى {مَن يشَاءُ} على تقدير: من يشاء هديه، أي من تعلّقت مشيئته، وهي إرادته بأنه يهتدي فخلقه متأثراً بتلك المشيئة فقدّر له الاهتداء، وفهم من قوله {مَنْ يَشَاء} أنه لا يهدي به من لم يشأ هديَه وهو ما دلت عليه المقابلة بقوله: {ومَن يُضْلِل الله فما لهُ من هَادٍ}، أي من لم يشأ هديه فلم يقلع عن ضلاله فلا سبيل لهديه. والمعنى: إن ذلك لنقص في الضالّ لا في الكتاب الذي من شأنه الهدى.
{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)} {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة}. الجملة اعتراض بين الثناء على القرآن فيما مضى وقوله الآتي: {ولقدَ ضَربْنَا للنَّاسسِ في هذا القُرءَاننِ من كُل مَثَلٍ} [الزمر: 27]. وجعلها المفسرون تفريعاً على جملة {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هادٍ} [الزمر: 23] بدلالة مجموع الجملتين على فريقين: فريق مهتد، وفريق ضاللٍ، ففرع على ذلك هذا الاستفهام المستعمل في معنى مجازي. وجعل المفسرون في الكلام حذفاً، وتقدير المحذوف: كمن أمن العذاب أو كمن هو في النعيم. وجعلوا الاستفهام تقريرياً أو إنكارياً، والمقصود: عدم التسوية بين من هو في العذاب وهو الضالّ ومن هو في النعيم وهو الذي هداه الله، وحُذف حال الفريق الآخر لظهوره من المقابلة التي اقتضاها الاستفهام بناء على أن هذا التركيب نظير قوله: {أفمَنْ حقَّ عليهِ كلمةُ العذابِ} [الزمر: 19] وقوله: {أفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلاَمِ} [الزمر: 22]، والقول فيه مثل القول في سابقه من الاستفهام وحذف الخبر، وتقديره: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب، لأن الله أضله كمن أمن من العذاب لأن الله هداه، وهو كقوله تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله} [محمد: 14]. والمعنى: أن الذين اهتدوا لا ينالهم العذاب. ويجوز عندي أن يكون الكلام تفريعاً على جملة {وَمَن يُضْلِللِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] تفريعاً لتعيين مَا صْدِق (مَنْ) في قوله: {ومن يُضْلِل الله فما له من هَادٍ} ويكون {من يتقي} خبراً لمبتدأ محذوف، تقديره: أفهو من يتقي بوجهه سوء العذاب، والاستفهام للتقرير. والاتقاء: تكلف الوقاية وهي الصون والدفع، وفعلها يتعدى إلى مفعولين، يقال: وقى نفسه ضربَ السيف، ويتعدّى بالباء إلى سبب الوقاية، يقال: وقى بترسه، وقال النابغة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولْته واتَّقتنا باليد وإذا كان وجه الإنسان ليس من شأنه أن يُوقى به شيء من الجسد، إذ الوجه أعزّ ما في الجسد وهو يُوقَى ولا يُتقى به فإن من جبلِّة الإِنسان إذا توقع ما يصيب جسده ستر وجهه خوفاً عليه، فتعين أن يكون الاتقاء بالوجه مستعملاً كناية عن عدم الوقاية على طريقة التهكم أو التلميح، فكأنه قيل: من يطلب وقاية وجهه فلا يجد ما يقيه به إلا وجهه، وهذا من إثبات الشيء بما يشبه نفيه، وقريب منه قوله تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل} [الكهف: 29]. و {سُوءَ العَذَابِ} منصوب على المفعولية لفعل {يَتَّقِي}. وأصله مفعول ثان إذ أصله: وَقَى نفسه سوءَ العذاب، فلما صيغ منه الافتعال صار الفعل متعدياً إلى مفعول واحد هو الذي كان مفعولاً ثانياً. {القيامة وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ} يجوز أن يكون {وَقِيلَ} عطفاً على الصلة. والتقدير: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب، وقيل لهم فإن (مَن) مراد بها جمْع، والتعبير ب {الظالمين} إظهار في مقام الإِضمار للإِيماء إلى أن ما يلاقونه من العذاب مسبب على ظلمهم، أي شركهم. والمعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب فلا يجد وقاية تنجيه من ذوق العذاب فيقال لهم: ذُوقوا العذاب. ويجوز أن يكون المراد ب {الظالمين} جميع الذين أشركوا بالله من الأمم غير خاص بالمشركين المتحدث عنهم، فيكون {الظالمين} إظهاراً على أصله لقصد التعميم، فتكون الجملة في معنى التذييل، أي ويقال لهؤلاء وأشباههم، ويظهر بذلك وجه تعقيبه بقوله تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} [الزمر: 25]. وجاء فعل {وَقِيلَ} بصيغة المضيّ وهو واقع في المستقبل لأنه لتحقق وقوعه نزل منزلة فعل مضَى. ويجوز أن يكون جملة {وقِيلَ للظالمين} في موضع الحال بتقدير (قد) ولذلك لا يحتاج إلى تأويل صيغة المضيّ على معنى الأمر المحقق وقوعه. والذوق: مستعار لإِحساس ظاهر الجسد لأن إحساس الذوق باللسان أشد من إحساس ظاهر الجلد فوجه الشبه قوة الجنس. والمذوق: هو العذاب فهو جزاء مَا اكتسبوه في الدنيا من الشرك وشرائعه، فجعل المذوق نفس ما كانوا يكسبون مبالغة مشيرة إلى أن الجزاء وفق أعمالهم وأن الله عادل في تعذيبهم. وأوثر {تَكْسِبُونَ} على (تعملون) لأن خطابهم كان في حال اتقائهم سوءَ العذاب ولا يخلو حال المعذّب من التبرم الذي هو كالإِنكار على معذِّبه. فجيء بالصلة الدالة على أن ما ذاقوه جزاء ما اكتسبوه قطعاً لتبرمهم.
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)} استئناف بياني لأن ما ذكر قبله من مصير المشركين إلى سوء العذاب يوم القيامة ويوم يقال للظالمين هم وأمثالهم: {ذوقوا ما كنتم تكسبون} [الزمر: 24]، يثير في نفوس المؤمنين سؤالاً عن تمتع المشركين بالنعمة في الدنيا ويتمنون أن يعجل لهم العذاب فكان جواباً عن ذلك قولُه: {كذَّبَ الذين من قبلهم فأتاهم العذابُ من حيثُ لا يشعرونَ}، أي هم مظنة أن يأتيهم العذاب كما أتى العذابُ الذين مَن قبلهم إذ أتاهم العذاب في الدنيا بدون إنذار غيرَ مترقبين مجيئه، على نحو قوله تعالى: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} [يونس: 102]، فكان عذاب الدنيا خزياً يخزي به الله من يشاء من الظالمين، وأما عذاب الآخرة فجزاء يَجزي به الله الظالمين على ظلمهم. والفاء في قوله: {فأتاهم العذابُ} دالّة على تسبب التكذيب في إتيان العذاب إليهم فلما ساواهم مشركو العرب في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كان سبب حلول العذاب بأولئك موجوداً فيهم فهو منذر بأنهم يحلّ بهم مثل ما حلّ بأولئك. وضمير {مِن قَبْلِهم} عائد على {مَن يتَّقِي بوجهه سُوءَ العَذَابِ} [الزمر: 24] باعتبار أن معنى (مَن) جمع. وفي هذا تعريض بإنذار المشركين بعذاب يحلّ بهم في الدنيا وهو عذاب السيف الذي أخزاهم الله به يوم بدر. فالمراد بالعذاب الذي أتى الذين من قبلهم: هو عذاب الدنيا، لأنه الذي يوصف بالإِتيان من حيث لا يشعرون. و {حيثُ} ظرف مكان، أي جاء العذابُ الذين من قبلهم من مكان لا يشعرون به؛ فقوم أتاهم من جهة السماء بالصواعق، وقوم أتاهم من الجو مثل ريح عاد، قال تعالى: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} [الأحقاف: 24]، وقوم أتاهم من تحتهم بالزلازل والخسف مثل قوم لوط، وقوم أتاهم من نبع الماء من الأرض مثل قوم نوح، وقوم عم عليهم البحر مثل قوم فرعون. وكان العذاب الذي أصاب كفار قريش لم يخطر لهم ببال، وهو قطع السيوف رقابهم وهم في عزة من قومهم وحرمة عند قبائل العرب ما كانوا يحسبون أيدياً تقطع رقابهم كحال أبي جهل وهو في الغَرغرة يوم بدر حين قال له ابن مسعود: أنت أبَا جهل؟ فقال: «وهل أعمد من رجل قتله قومه». واستعارة الإِذاقة لإِهانة الخزي تخييلية وهي من تشبيه المعقول بالمحسوس. وعطف عليه {ولعذاب الآخرة أكبر} للاحتراس، أي أن عذاب الآخرة هو الجزاء، وأما عذاب الدنيا فقد يصيب الله به بعض الظلمة زيادة خزي لهم. وقوله: {لو كانوا يعلمون} جملة معترضة في آخر الكلام. ومفعول {يَعْلَمُونَ} دل عليه الكلام المتقدم، أي لو كان هؤلاء يعلمون أن الله أذاق الآخرين الخزي في الدنيا بسبب تكذيبهم الرسل، وأن الله أعدّ لهم عذاباً في الآخرة هو أشد. وضمير {يَعْلَمُونَ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {قَبْلِهِمْ}. وجواب {لو} محذوف دل عليه التعريض بالوعيد في قوله: {كَذَّبَ الذين من قَبْلِهم} الآية، تقديره: لو كانوا يعلمون أن ما حلّ بهم سببه تكذيبهم رسلهم كما كذّب هؤلاء محمداً صلى الله عليه وسلم ووصف عذاب الآخرة ب {أكبر} بمعنى: أشد فهو أشد كيفية من عذاب الدنيا وأشد كمية لأنه أبدي.
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)} عطف على جملة {الله نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ إلى قوله: فَما لهُ مِن هَادٍ} [الزمر: 23]، تتمة للتنويه بالقرآن وإرشاده، وللتعريض بتسفيه أحلام الذين كذّبوا به وأعرضوا عن الاهتداء بهديه. وتأكيد الخبر بلام القسم وحرففِ التحقيق منظور فيه إلى حال الفريق الذين لم يتدبروا القرآن وطعنوا فيه وأنكروا أنه من عند الله. والتعريف في {الناس} للاستغراق، أي لجميع الناس، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم للناس كافة. وضَرْب المثل: ذِكره ووصفُه، وقد تقدم في قوله تعالى: {إن اللَّه لا يستحيِّ أن يضرب مثلاً} في سورة [البقرة: 26]. وتنوين {مَثَلٍ} للتعظيم والشرف، أي من كل أشرف الأمثال، فالمعنى: ذكرنا للناس في القرآن أمثالاً هي بعض من كل أنفع الأمثال وأشرفها. والمراد: شرف نفعها. وخُصّت أمثال القرآن بالذكر من بين مزايا القرآن لأجل لَفت بصائرهم للتدبر في ناحية عظيمة من نواحي إعجازه وهي بلاغة أمثاله، فإن بلغاءهم كانوا يتنافسون في جَودة الأمثال وإصابتها المحزّ من تشبيه الحالة بالحالة. وتقدم هذا عند قوله تعالى: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} في سورة [الإِسراء: 89]، وتقدم في قوله: {ولقَد ضَرَبنا للنَّاسسِ في هذَا القُرْآننِ مِن كل مَثَلٍ} في سورة [الروم: 58]. ومعنى الرجاء في {لَعَلَّهُم يتذَكَّرُونَ} منصرف إلى أن حالهم عند ضرب الأمثال القرآنية كحال من يرجو الناس منه أن يتذكر، وهذا مِثل نظائر هذا الترجي الواقع في القرآن، وتقدم في سورة البقرة. ومعنى التذكر: التأمل والتدبر لينكشف لهم ما هم غافلون عنه سواء ما سبق لهم به علم فنسُوه وشُغلوا عنه بسفسَاففِ الأمور، وما لم يسبق لهم علم به مما شأنه أن يستبصره الرأي الأصيل حتى إذا انكشف له كان كالشيء الذي سبق له علمه وذهِل عنه، فمعنى التذكر معنى بديع شامل لهذه الخصائص. وهذا وصفُ القرآن في حدّ ذاته إن صادف عقلاً صافياً ونفساً مجردة عن المكابرة فتذكر به المؤمنون به من قبل، وتذكّر به من كان التذكّر به سبباً في إيمانه بعد كفره بسرعة أو ببطء، وأما الذين لم يتذكروا به فإن عدم تذكرهم لنقص في فطرتهم وتغشية العناد لألبابهم. وكذلك معنى قوله: {لعلَّهُم يتَّقُونَ}. وانتصب {قُرْءَاناً} على الحال من اسم الإِشارة المبيَّن بالقرآن، فالحال هنا موطئة لأنها توطئة للنعت في قوله تعالى: {قُرْءَاناً عَرَبِيَّاً} وإن كان بظاهر لفظ {قُرْءَاناً} حالاً مؤكدة ولكن العبرة بما بعده، ولذلك قال الزجاج: إن {عَرَبِيَّاً} منصوب على الحال، أي لأنه نعت للحال. والمقصود من هذه الحال التورك على المشركين حيث تلقوا القرآن تلقيَ من سمع كلاماً لم يفهمه كأنه بلغة غير لغته لا يُعيره بالاً كقوله تعالى: {فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} [الدخان: 58]، مع التحدّي لهم بأنهم عجزوا عن معارضته وهو من لغتهم، وهو أيضاً ثناء على القرآن من حيث إنه كلام باستقامة ألفاظه لأن اللغة العربية أفصح لغات البشر. والعِوج بكسر العين أريد به: اختلال المعاني دون الأعيان، وأما العَوج بفتح العين فيشملها، وهذا مختار أيمة اللغة مثل ابن دريد والزمخشري والزجاج والفيروزبادي، وصحح المرزوقي في «شرح الفصيح» أنهما سواء، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولم يجعل له عوجاً} في سورة [الكهف: 1]، وقوله: {لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} في سورة [طه: 107]. وهذا ثناء على القرآن بكمال معانيه بعد أن أثني عليه باستقامة ألفاظه. ووجه العدول عن وصفه بالاستقامة إلى وصفه بانتفاء العوج عنه التوسلُ إلى إيقاع {عِوَجٍ} وهو نكرة في سياق ما هو بمعنى النفي وهو كلمة {غَير} فيفيد انتفاء جنس العِوج على وجه عموم النفي، أي ليس فيه عوج قط، ولأن لفظ {عِوَجٍ} مختص باختلال المعاني، فيكون الكلام نصاً في استقامة معاني القرآن لأن الدلالة على استقامة ألفاظه ونظمه قد استفيدت من وصفه بكونه عربياً كما علمته آنفاً. وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} مثل قوله: {لعَلَّهُم يتذَكَّرُونَ}، وذُكر هنا {يَتَّقُونَ} لأنهم إذا تذكروا يسرت عليهم التقوى، ولأن التذكر أنسب بضرب الأمثال لأن في الأمثال عبرة بأحوال الممثل به فهي مفضية إلى التذكر، والاتقاء أنسبُ بانتفاء العوج لأنه إذا استقامت معانيه واتضحت كان العمل بما يدعو إليه أيسر وذلك هو التقوى.
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)} استئناف وهو من قبيل التعرض إلى المقصود بعد المقدمة فإن قوله: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} [الروم: 58] توطئة لهذا المثل المضروب لحال أهل الشرك وحال أهل التوحيد، وفي هذا الانتقال تخلص أُتبع تذكيرهم بما ضرب لهم في القرآن من كل مثل على وجه إجماللِ العموم استقصاءً في التذكير ومعاودة للإِرشاد، وتخلصاً من وصف القرآن بأن فيه من كل مثل، إلى تمثيل حال الذين كفروا بحاللٍ خاص. فهذا المثل متصل بقوله تعالى: {أفَمَن شرَحَ الله صدرَهُ للإسلامِ} إلى قوله: {أُولئِكَ في ضَلاللٍ مُبينٍ} [الزمر: 22]، فهو مثل لحال من شرح الله صدرهم للإِسلام وحال من قَست قلوبهم. ومجيء فعل {ضَرَبَ الله} بصيغة الماضي مع أن ضَرْب هذا المثل ما حصل إلا في زمن نزول هذه الآية لتقريب زمن الحال من زمن الماضي لقصد التشويق إلى علم هذا المثل فيجعل كالإِخبار عن أمر حصل لأن النفوس أرغب في علمه كقول المثوِّب: قد قامت الصلاة. وفيه التنبيه على أنه أمر محقق الوقوع كما تقدم عند قوله تعالى: {وضرب اللَّه مثلاً قرية} في سورة [النحل: 112]. أما صاحب «الكشاف» فجعل فِعل {ضرب} مستعملاً في معنى الأمر إذ فسره بقوله: اضرِبْ لهم مثلاً وقُل لهم ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء، إلى آخر كلامه، فكان ظاهر كلامه أن الخبر هنا مستعمل في الطلب، فقرره شارحوه الطيبي والقزويني والتفتزاني بما حاصل مجموعه: أنه أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع قوله: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرءان من كُلّ مثلٍ} [الزمر: 27] عَلِم أنه سينزل عليه مَثَل من أمثال القرآن فأنبأه الله بصدق ما عَلمه وجعَله لتحققه كأنه ماض. وليلائم توجيه الاستفهام إليهم بقوله: هَلْ يَسْتَوِيَاننِ مثلاً} (فإنه سؤال تبكيت) فتلتئم أطراف نظم الكلام، فعُدل عن مقتضى الظاهر من إلقاء ضرب المثل بصيغة الأمر إلى إلقائه بصيغة المضيّ لإِفادة صدق علم النبي صلى الله عليه وسلم وكل هذا أدق معنى وأنسب ببلاغة القرآن مِن قول من جعل المضي في فعل {ضَرَب} على حقيقته وقال: إن معناه: ضرب المثل في علمه فأخبِرْ به قومك. فالذي دعا الزمخشري إلى سلوك هذا المعنى في خصوص هذه الآية هو رعي مناسبات اختص بها سياق الكلام الذي وقعت فيه، ولا داعي إليه في غيرها من نظائر صيغتها مما لم يوجد لله فيه مقتضضٍ لِنحو هذا المحمل، ألا ترى أنه لا يتأتى في نحو قوله: {ألم تر كيف ضرب اللَّه مثلاً كلمة} كما في سورة [إبراهيم: 24]، وقد أشرنا إليه عند قوله: {وضرب اللَّه مثلاً قرية} في سورة [النحل: 112]. وقد يقال فيه وفي نظائره: إن العدول عن أن يصاغ بصيغة الطلب كما في قوله: {واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية} [يس: 13]، {واضرب لهم مثلاً رجلين} [الكهف: 32] {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا} [الكهف: 45] إلى أن صيغ بصيغة الخبر هو التوسل إلى إسناده إلى الله تنويهاً بشأن المثل كما أشرنا إليه في سورة النحل. وإسناد ضَرْب المثل إلى الله لأنه كوَّن نظمه بدون واسطة ثم أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فالقرآن كلّه من جَعْل الله سواء في ذلك أمثاله وغيرها، وهو كله مأمور رسوله صلى الله عليه وسلم بتبليغه، فكأنه قال له: ضَرب الله مثلاً فاضْرِبه للناس وبيَّنْه لهم، إذ المقصود من ضرب هذا المثل محاجّة المشركين وتبكيتهم به في كشف سوء حالتهم في الإِشراك، إذ مقتضى الظاهر أن يجري الكلام على طريقة نظائره كقوله: {واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية} [يس: 13]، وكذلك ما تقدم من الأمر في نحو قوله: {قُلْ هل يَسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ} [الزمر: 9]، {قُلْ يا عِبَادِ الذينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُم} [الزمر: 10]، {قُلْ إني أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ الله} [الزمر: 11]، {قُللِ الله أعْبُد} [الزمر: 14]، {قُلْ إنَّ الخاسِرِينَ} [الزمر: 15]، {فَبَشّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17]. (وقد يُتطلب وجهه التفرقة بين ما صيغ بصيغة الخبر وما صيغ بصيغة الطلب فنفرق بين الصنفين بأن ما صيغ بصيغة الخبر كان في مقاممٍ أهمَّ لأنه إمّا تمثيل لإِبطال الإِشراك، وإمّا لوعيد المشركين، وإمّا لنحو ذلك، خلافاً لما صيغ بصيغة الخبر فإنه كائن في مقام العبرة والموعظة للمسلمين أو أهل الكتاب، وهذا ما أشرنا إليه إجمالاً في سورة النحل. وقوله: {رَّجُلاً فيهِ شُرَكَاءُ} وما بعده في موضع البيان ل {مَثَلاً}. وجَعْل الممثَّل به حالة رجل ليس للاحتراز عن امرأة أو طفل ولكن لأن الرجل هو الذي يسبق إلى أذهان الناس في المخاطبات والحكايات، ولأن ما يراد من الرجل من الأعمال أكثر مما يراد من المرأة والصبيّ، ولأن الرجل أشدّ شعوراً بما هو فيه من الدعة أو الكدّ، وأما المرأة والصبي فقد يغفلان ويلهيان. وجملة {فِيهِ شُرَكَاءُ} نعت ل {رَّجُلاً}، وتقديم المجرور على {شُرَكَاءُ} لأن خبر النكرة يحسن تقديمه عليها إذا وصفت، فإذا لم توصف وجب تقديم الخبر لكراهة الابتداء بالنكرة. ومعنى {فِيهِ شُرَكَاءُ}: في ملكه شركاء. والتشاكس: شدة الاختلاف، وشدّة الاختلاف في الرجل الاختلاف في استخدامه وتوجيهه. وقرأ الجمهور {سَلَماً} بفتح السين وفتح اللام بعدها ميم وهو اسم مصدر: سَلِم له، إذا خَلَص. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {سالماً بصيغة اسم الفاعل وهو من: سَلِم، إذا خلص، واختار هذه القراءة أبو عبيد ولا وجه له، والحق أنهما سواء كما أيده النحّاس وأبو حاتم، والمعنى: أنه لا شركة فيه للرجل. وهذا تمثيل لحال المشرك في تقسّم عقله بين آلهة كثيرين فهو في حيرة وشك من رضى بعضهم عنه وغضب بعض، وفي تردد عبادته إن أرضى بها أحدَ آلهته، لعله يُغضب بها ضده، فرغباتهم مختلفة وبعض القبائل أولى ببعض الأصنام من بعض، قال تعالى: {ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91]، ويبقى هو ضائعاً لا يدري على أيهم يعتمد، فوهمه شَعاع، وقلبه أوزاع، بحال مملوك اشترك فيه مالكون لا يخلون من أن يكون بينهم اختلاف وتنازع، فهم يتعاورونه في مهن شتّى ويتدافعونه في حوائجهم، فهو حيران في إرضائهم تَعبان في أداء حقوقهم لا يستقل لحظة ولا يتمكن من استراحة. ويقابله تمثيل حال المسلم الموحّد يقوم بما كلّفه ربه عارفاً بمرضاته مؤملاً رضاه وجزاءه، مستقرَّ البال، بحال العبد المملوك الخالص لمالك واحد قد عرف مراد مولاه وعلم ما أوجبه عليه ففهمُه واحد وقلبه مجتمع. وكذلك الحال في كل متّبع حق ومتبع باطل فإن الحق هو الموافق لما في الوجود والواقع، والباطلَ مخالف لما في الواقع، فمتبع الحق لا يعترضه ما يشوش عليه بالَه ولا ما يثقل عليه أعماله، ومتبع الباطل يتعَثر به في مزالق الخُطَى ويتخبط في أعماله بين تناقض وخَطأ. ثم قال: {هَلْ يَسْتَوِيَاننِ مَثَلاً}، أي هل يكون هذان الرجلان المشبهان مستويين حالاً بعد ما علمتم من اختلاف حالي المشبهين بهما. والاستفهام في قوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} يجوز أن يكون تقريرياً، ويجوز أن يكون إنكارياً، وجيء فيه ب {هَلْ} لتحقيق التقرير أو الإِنكار. وانتصب {مَثَلاً} على التمييز لنسبة {يَسْتَوِيَانِ}. والمثل: الحال. والتقدير: هل يستوي حالاهما، والاستواء يقتضي شيئين فأكثر، وإنما أفرد التمييز المراد به الجنس، وقد عرف التعدد من فاعل {يَسْتَوِيَانِ} ولو أسند الفعل إلى ما وقع به التمييز لقيل: هل يستوي مثلاهما. وجملة {الحَمْدُ لله} يجوز أن تكون جواباً للاستفهام التقريري بناء على أن أحد الظرفين المقرر عليهما محقق الوقوع لا يسع المقررَ عليه إلا الإِقرار به، فيقَدَّرون: أنهم أقروا بعدم استوائهما في الحالة، أي بأن أحدهما أفضل من الآخر، فإن مثل هذا الاستفهام لا ينتظِر السائل جواباً عنه، فلذلك يصح أن يتولى الجواب عنه قبلَ أن يجيب المسؤول كقوله تعالى: {عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم} [النبأ: 1 2]، وقد يبنى على أن المسؤول اعترف فيؤتى بما يناسب اعترافه كما هنا، فكأنهم قالوا: لا يستويان، وذلك هو ما يبتغيه المتكلم من استفهامه، فلما وافق جوابهم بغية المستفهم حمد الله على نهوض حجته، فتكون الجملة استئنافاً، فموقعها كموقع النتيجة بعد الدليل، وتكون جملة {بل أكثرهم لا يعلمون} قرينة على أنهم نزّلوا منزلة مَن علم فأقر وأنهم ليسوا كذلك في نفس الأمر، ويجوز أن تكون معترضة إذا جعل الاستفهام إنكارياً فتكون معترضة بين الإنكار وبين الإضراب الانتقالي في قوله {بل أكثرهم لا يعلمون} أي لا يعلمون عدم استواء الحالتين ولو علموا لاختاروا لأنفسهم الحسنى منهما، ولَمَا أصرُّوا على الإِشراك. وأفاد هذا أن ما انتحلوه من الشرك وتكاذيبه لا يمتّ إلى العلم بصلة فهو جهالة واختلاق. و{بل} للإِضراب الانتقالي. وأسند عدم العلم لأكثرهم لأن أكثرهم عامة أتباعٌ لزعمائهم الذين سنُّوا لهم الإِشراك وشرائعَه انتفاعاً بالجاه والثناء الكاذب بحيث غَشَّى ذلك على عملهم.
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} لمّا جرى الكلام من أول السورة في مهيع إبطال الشرك وإثبات الوحدانية للإله، وتوضيح الاختلاف بين حال المشركين وحال الموحّدين المؤمنين بما ينبئ بتفضيل حال المؤمنين، وفي مهيع إقامة الحجة على بطلان الشرك وعلى أحقيّة الإِيمان، وإرشاد المشركين إلى التبصر في هذا القرآن، وتخلل في ذلك ما يقتضي أنهم غير مقلعين عن باطلهم، وختم بتسجيل جهلهم وعدم علمهم، خُتم هذا الغرض بإحالتهم على حكم الله بينهم وبين المؤمنين يوم القيامة حين لا يستطيعون إنكاراً، وحين يلتفتون فلا يَرون إلا ناراً. وقدم لذلك تذكيرهم بأن الناس كلهم صائرون إلى الموت فإن الموت آخر ما يذكر به السادر في غلوائه إذا كان قد اغتر بعظمة الحياة ولم يتفكر في اختيار طريق السلامة والنجاة، وهذا من انتهاز القرآن فرص الإِرشاد والموعظة. فالمقصود هو قوله: {إنَّكم يوم القيامةِ عندَ ربِّكُم تختصِمون} فاغتُنم هذا الغرض ليجتلب معه موعظة بما يتقدمه من الحوادث عسى أن يكون لهم بها مُعتبر، فحصلت بهذا فوائد: منها تمهيد ذكر يوم القيامة، ومنها التذكير بزوال هذه الحياة، فهذان عامَّانِ للمشركين والمؤمنين، ومنها حثّ المؤمنين على المبادرة للعمل الصالح، ومنها إشعارهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يموت كما مات النبيئون من قبله ليغتنموا الانتفاع به في حياته ويحرصوا على ملازمة مجلسه، ومنها أن لا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره، ومنها تعليم المسلمين أن الله سوّى في الموت بين الخلق دون رعي لتفاضلهم في الحياة لتكثر السَّلْوة وتقل الحسرة. فجملتا {إنَّكَ مَيّتٌ وإنَّهُم مَّيتُونَ} استئناف، وعُطف عليهما {ثم إنَّكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} بحرف {ثمّ} الدال على الترتيب الرتبي لأن الإِنباء بالفصْل بينهم يوم القيامة أهم في هذا المقام من الإِنباء بأنهم صائرون إلى الموت. والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو خبر مستعمل في التعريض بالمشركين إذ كانوا يقولون: {نتربص به ريب المنون} [الطور: 30]، والمعنى: أن الموت يأتيك ويأتيهم فما يدري القائلون: {نتربص به ريب المنون أن يكونوا يموتون قبلك، وكذلك كان، فقد رأى رسول الله مصارع أشدّ أعدائه في قَلِيب بدر، قال عبد الله بن مسعود: دَعا رسول الله على أبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي مُعيط وعمارة بن الوليد فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عدّهم رسول الله صرعى في القليب قليب بدر. وضمير الغيبة في وإنَّهُم مَّيّتُونَ} للمشركين المتحدث عنهم، وأما المؤمنون فلا غرض هنا للإِخبار بأنهم ميّتون كما هو بيّن من تفسير الآية. وتأكيد الخبرين ب (إنّ) لتحقيق المعنى التعريضي المقصود منها. والمراد بالميت: الصائر إلى الموت فهو من استعمال الوصف فيمن سيتصف به في المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه مثل استعمال اسم الفاعل في المستقبل كقوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]. والميت: هو من اتصف بالموت، أي زالت عنه الحياة، ومثله: الميْت بتخفيف السكون على الياء، والتحقيق أنه لا فرق بينهما خلافاً للكسائي والفراء. وتأكيد جملة {إنَّكم يوم القيامَةِ عند ربكم تَخْتَصِمُونَ} لرد إنكار المشركين البعث. وتقديم {عِندَ ربّكُم} على {تَخْتَصِمُونَ} للاهتمام ورعاية الفاصلة. والاختصام: كناية عن الحكم بينهم، أي يحكم بينكم فيما اختصمتم فيه في الدنيا من اثبات المشركين آلهة وإبطالكم ذلك، فهو كقوله تعالى: {إن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} [النحل: 124]. ويجوز أن يكون الاختصام أطلق على حكاية ما وقع بينهم في الدنيا حين تُعرض أعمالهم، كما يقال: هذا تخاصُم فلان وفلان، في طالع محضر خصومة ومقاولة بينهما يُقرأ بين يدي القاضي. ويجوز أن تصوَّر خصومة بين الفريقين يومئذٍ ليفتضح المبطلون ويبهج أهل الحق على نحو ما قال تعالى: {إن ذلك لحقُ تخاصم أهل النار} [ص: 64]. وعلى الوجه الأول فضمير {إنَّكُمْ} عائد إلى مجموع ما عاد إليه ضمير {إنَّكَ} و{إنَّهُم}. وعلى الوجهين الأخيرين يجوز أن يكون الضمير كما في الوجه الأول. ويجوز أن يكون عائداً إلى جميع الأمة وهو اختصام الظلامات، وقد ورد تأويل الضمير على هذا المعنى فيما رواه النسائي وغيره عن عبد الله بن عمر قال: «لما نزلت هذه الآية قلنا: كيف نختصم ونحن إخوان، فلما قتل عثمان وضرب بعضُنا وَجه بعض بالسيف قلنا: هذا الخصام الذي وعدنا ربنا». وروى سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدْري مثل مقالة ابن عمر ولكن أبا سعيد قال: «فلما كان يوم صّفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو ذا». وسواء شملت الآية هذه المحامل وهو الأليق، أو لم تشملها فالمقصود الأصلي منها هو تخاصم أهل الإِيمان وأهل الشرك.
|